(يا أيُها الَّذينَ ءَامَنُواْ كونوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للهِ) [ النساء: 135].
الشعور الفطريُّ للعدل وغريزةُ طلَب العدالة في الإنسان:
إنّ شعور الحب للعدل وطلب العدالة- هو كالشعور بالحاجة إلى السلام- شيء أودع في فطرة الإنسان، منذ بدء الخلق، مع غض النظر عن كون مفهوم العدالة مفهوماً مبهماً، وغير واضح من الناحية الفلسفية والكلامية، وحتى القانونية.
فالشعور بالعدالة شيء يعيش في أعماق نفوسنا، يضيء لنا وجداننا، ونارٌ تلهب أرواحنا وظاهرة تأخذ بنا إلى أن نعيش حياةً مبنيّة على العدالة، وأن نتعامل بعدالة، وأن نحفظ كل ما من شأنه أن يجعلنا على حدّ العدالة.
فإذا وصل الأمر إلى فهم المعنى الدقيق للعدالة بمستواها الظاهري تظهر الإختلافات في هذا المفهوم على صعيد المدارس الفلسفية، والأخلاقية المتنوعة، وهذا صادقٌ، حتى على مستوى الدين الواحد, والدين الإسلامي لا يخرج عن هذه القاعدة.
إنّ مفهومَ العدالة استوعب جميعَ حياة المسلمين وكذلك الشريعة الإسلامية، تلك الشريعة التي ليس لها هدف سوى إقرار العدالة، والقرآن أيضاً مملوء بالإشارات التي تؤكد على العدالة، والمجتمع الصالح الفاضل في نظر القرآن، هو المجتمع العادل.
إنّ هذه الفضيلة تشكّل محوراً في الإسلام، إذ جاء على لسان النبيّ (ص): "إنّ المُلكَ يبقى مع الكُفر ولا يبقى مع الظُّلمِ".
إنَّ العدل من المسائل الأساسية عند المسلمين، كاليهود الذين خاطبتهم التوراة مراراً وتكراراً وحثَّتهم على إقرار العدل، وكالمسيحين الذين أعطى علماؤهم مسألة العدل أهميةً أكبرَ من أيّ مسألة أخرى، وهكذا أتباع الأديان الأخرى، وأهم تلك المسائل المختصة بالعدل هي: ما هو مفهوم عدالة الله وما هو ملاكُها؟ كيف نستطيع أن نحكم بالعدل؟
ما هي العدالة على المستوى الإنساني؟ وما هو السبب في وقوع ظاهرة الظلم والخروقات في هذا العالم، مع كل هذه التأكيدات على العدالة؟
أنّ من الأمور المسلّمة لدى المسلمين، أن الله عادل، والعدل صَفتُه، وكل ما أنزل على أنبيائه، يقع في إطار عدله.
وقد أفرزَت المذاهبُ المختلفة في الفكر الإسلامي في هذا الإطار العامّ وعلى مدى سنينَ طويلة اختلافاتٍ عديدةً في هذا الموضوع. وحدثَ هذا بالنسبة للمسيحيين واليهود.
ولا يخفى هنا أننا لا نستطيع أن نعرض لتلك الإختلافات الكلامية والفلسفية، لكننا نستطيع أن نشير إلى العقائد الأساسية التي يرتضيها جميعُ المسلمين، ونسعى إلى عرض بضع الخصوصيات الأساسية الحقيقية المحورية في العدالة، وإلى كشف الأعمال الصالحة من جهة، ورفض الظلم والطغيان، من جهة أخرى، في العالم الإسلامي.
العدالة الإلهيّة:
كما أنَّ الرحيم والودود والسلام والجمال من أسماء الله عز وجل، فإنّ العدل من أسمائه جل وعلا، الله عادل وعدلٌ مُقسِطٌ وحكَمٌ، وكما يبدو من هذه الأسماء فإنّ الله ليس بعادل فحسب، وإنما هو العدل بعينه، بما تعنيه الكلمةُ من معنى.
على هذا ما معنى (العدالة) في حدَّ ذاتها. وما معنى العدالة الإلهية؟
يقول الإمام عليٌّ (ع) في كلماته القصار: "... إنّ العدلَ وضعُ الأمور مواضَعها".
والعدالة تعني التعادلَ وإعطاء كل ذي حقّ حقَّه، ووضع كل شيء موضعه، وتتطابق مع طرح أفلاطون إذ افترضَ أنّ العدالة هي أداء كل فرد من أفراد المجتمع وظيفته التي تتناسب مع فطرته.
أما الله الحق، فإنّ تعبير (كل ذي حق)، وتعبير علم الحقوق، وحقوق الإنسان، قد أخذت من اسمه (الحق).
فالله سبحانه ولأنه حقٌّ مطلَق ولا يوجد تركيب وتقسم واحدٌ في ذاته، فهو عادل. ذلك لأنه هو الوجود، وما سواه عدم. إذن، ينتفي إمكانُ عدم التعادل أو الفوضوية فيه، لأنه لا توجد إيُّ واقعية في داخله أو خارجه تسبب ذلك. وإذا أردنا أن نتحدث بغلة الإلهيات، نقول: أنّ الله وحده الكامل والعادل المطلق.
طيلة قرون طويلة بحثَ المتكلمون المسلمون هذه المسألة، وهي أنه هل كل ما يصدر من الله عدلٌ في حدّ ذاته لأنه مِنْ فعلهِ أم أنَّ فعلَ الله لا يمكن أن يكون إلا عدلاً، ونحن انتزعنا ذلك عن طريق عقولنا التي وهبَها لنا اللهُ؟
أن النتيجة النهائية هي: حيث أنّ النظرة العامة للإسلام واحدة، وهي قائمةٌ على عدالة الله المُطلَقة، وعدالتِه في خَلقِه، نقرأ في القرآن: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام: 115]، وأيضاً: (... قآئما بِالْقِسْطِ لآ إلهَ إلا هُوَ...) [آل عمران: 18].
لقد خلق الله كلَّ شيء بعدالة، وأراد من عباده الذين أسنَد إليهم الإختيارَ أن يكونوا عادلين.
وقد جاءت عبارة: (إنَّ اللهَ يُحِبُ الْمُقْسِطِينَ) ثلاثَ مرات في القرآن الكريم.
وعلى أساس تلك العدالة العالمية والإنسانية يحكم الله بين الناس يومَ البَعث، والقرآن يؤكّد على الدور المحوري الإلهي في مقام الحكم، كما وردَ في التوراة.
في الواقع أنّ القرآن يعلن صراحةً في مقام الحكم: (وَلَقَدْ ءَاتَيْنا بَني إسْراءيلَ الكِتابَ والْحُكْمَ...) [الجاثية: 16]، و(... وَعِندَهُمُ التَّوراتُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ...) [المائدة: 43].
الميزان:
الأجدرُ قبل أن نتناول حقائقَ المعاد (يوم القيامة) على أساس التعاليم الإسلامية أن نشير إلى المفاهيم والظواهر القرآنية في العدالة الإلهية، والحُكم الإلهي الأخير في ما يرتبط بأعمالنا، ومن جملة تلك الظواهر الميزانُ، الإصطلاح الذي تكرَّر ذكرُه في القرآن وفي النصوص القديمة المختلفة.
الله خلقَ كلَّ شيء في توازنٍ وتعادُلٍ، وهذا التعادل الملفت والدقيق والذي يشكّل علمة الوحدة في نطاق الكثرة- واضح وجليٌّ في هذا العالم-، كما عبّر القرآن: (وَالأرضَ مَدَدْناها وألْقَيْنا فِيهَا رَوَاسىَ وأنْبَتْنَا فيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) [الحجر: 19].
الميزان (التوازن) الشامل لجميع المراتب الوجودية والواقع، كالفيزياء والكيمياء والنفس والروح.
وتجدُ التعادلُ والتوازنَ في عناصر البدن والروح الصحيحَين. المسلمون أصحابُ السموِّ الروحي يعيشون أيضاً حالةً من التعادل والتوازن بين أبدانهم وأرواحهم وحاجات كل منها.
وإعطاء كل شيء حقَّه على طبيعته التي خلقها الله لا يعي سوى العيش المتعادل، وتحقق التعادل في الأشياء يؤدي بالنتيجة إلى الوصول إلى حياة متعادلة.
التوازن أيضاً يشمل أفعال الإنسان، وهذا حكم قرآني: (... وَاوْفُواْ الكَيْلَ والمِيزانَ بِالْقِسطِ...) [الأنعام: 152]، ولا يختص ذلك بالعدالة في البيع فقط، وإنما يدل أيضاً على ضرورة التوازن في أمور الحياة كلها.
في الواقع، إن جميع أعمالنا تُعرَضُ وتُوزَنُ في الميزان الإلهي، وعلى هذا الأساس والميزان سوف نحاسب ونحاكَم يوم القيامة، يقول الله تعالى: (وَنَنَعُ الْمَوازينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَة) [الأنبياء: 47]؛ الميزان هو العلامة الواضحة للعدالة. وكما أنّ الميزان علامة وإشارة على العدالة، فإن التوازن والتعادل في عالم الوجود يتضمن هكذا دوراً، كما يؤكد ذلك القرآن: (لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنَا بالْبَيِّناتِ وَأنزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والْمِيزَانَ...) [الحديد: 25].
المصدر: كتاب قلب الإسلام.. قيم خالدة من أجل الإنساني